في
البداية يجب علي تحذيرك ، حالتي النفسية ليست مستقرة أبدًا ، وأعاني من إكتئاب
جسيم ، إن كانت حالتك شبيهة بهذه الحالة ، أو قريبة منها ، أو يسهل انتقال الحزن
إليك فلا تقرأ وتوقف في الحال ، ف ما أسرع ما ينقل المرضى أمراضهم إلى المستعدين
لتحمل المرض ، المحتوى قد يكون سامًا جدًا ولولا أني أريد التخفف ما كتبت أبدًا
ولكـن هي طريقتنا في محاولة العيش لعل الوفاة تكون قريبا ، أما إن كانت لا تؤثر بك
العواطف ، أو يصعب إيصالك إلى الحالة التي أحدثك عنها فأكمل لا بأس .
كان هذا المقال معدًا في البداية لمراجعة فيلم غريب ، طويل
، وثقيل على النفس كذلك اسمه " الربيع ، الصيف ، الخريف ، الشتاء ، والربيع
مرة أخرى "
شاهدت الفيلم منذ عدة أيام وقررت عمل مراجعة أبين فيها
عن مضمون الفيلم وعن بعض ما وصلني منه ولكـن لم أقدر على الكتابة فأجلت الموضوع .
اليوم ماتت زوجة عمي ، وإرتباطي بها شديد ، وتأثير الموت
على قلبي شديد لدرجة مربكة ، مازلت أذكر يوم وفاة جدي ومازلت أذكر شكل أبي ، ومازلت
أذكر كلامه . .
قال لي حينها " أنا مش عاوزك تعمل معايا أكتر من
اللي عملته لأبويا " كان جدي مريضًا وكان أبي يتكفل بكل ما يمكن أن يتكفل به
، بكيت حينها ولم أعرف كيف أرد وربما كان هذا أول لقاء لي مع الموت .
مازلت أذكر صلاة الجنازة ، في كل جنازة أرى جدي ، وسبحان
الله فهذه الذاكرة غريبة كما قال طه فإنها تتذكر أحداثًا كما لو أنها كانت بالأمس
، وتنسى الكثير والكثير كأنه لم يكن بينها وبينه عهد .
أظن أن تأجيل الكتابة كان لإشارة أو لطيفة وهي الحالة
التي تجعل إدراك المعاني يتم بشكل أفضل .
دعوني في البداية أختصر لكم قصة الفيلم . . .
القصة عبارة عن 5 فصول تبدأ بالربيع وتعود إليه مرة أخرى
،أشخاص القصة قلة وتدور الحوارات كلها في مكان واحد ، أما عن الأشخاص فهم معلم
بوذي ، وطالب ، وبعض الحيوانات فربما في بعض الأحيان تكون فرخة ، وفي آخر تصير ثعبانًا
.
أسماء الأبطال غير معلومة ، فأنت لاتدرك من هو هذا الرجل
وما اسمه وهذا يذكرني بكلام بديع لدرويش حين قال :
لا أعرف الشخص الغريب ولا مآثره
رأيت جنازة فمشيت خلف النعش
وفي هذا شمول مطلق ، لا أسماء الكل واحد ، الخروج من
الخصوص للعموم، الإنطلاق من الداخلي للخارجي ، الخروج من الأفق الضيق المحدود إلى رحابة
المطلق ، من التفصيلات الصغيرة إلى الخط الناظم الرئيس فأشخاص القصة هم أنا وأنت
وكل الناس وهذه من أعظم النقاط في الفيلم .
كذلك المكان ، فالمكان واحد لا يختلف ، وهنا تبرز قيمة
القصة إذ أنها وحدها كافية على إبهارك وجعلك مستمتعًا طوال فترة الفيلم ، وهنا
تتضح قوة القصة والسيناريو .
في الفصل الأول " الربيع " تتعرف على شخصياتنا
التي ستلازمك في مراحلهم الزمنية المختلفة ، وترى في هذا الجزء كيف أن الصبي الصغير
يعذب سمكة ، وضفدعة ، وثعبان عن طريق ربط حجر صغير بكل منهم ، يراقبه معلمه ويدرك
ما فعل ، ويأتي إليه وهو نائم فيربط حجرًا ثقيلًا على ظهره يقيده ويثقل حركته
ويخبره أن يذهب ليعثر على السمكة ، والضفدعة والثعبان ولكـن إن ماتت أحد الحيوانات
فإن ذلك سيبقى في قلبه جرحًا لن يندمل فيذهب ليجد أن بعضها ماتت فعلًا ويظل يبكي
حتى إنتهاء المشهد !
هذا الفصل فظيع من حيث المغزى والمعنى، كلنا يمشي في
الحياة محملًا بالأثقال وربما هذه الأثقال قد وضعت وفرضت علينًا فرضًا، ولانكتفي
نحن بذلك فنمارس تلك الضغوطات على أناس آخرين،وهكذا وهكذا ..
كثيرون ضيعت حياتهم بسبب أثقال وضعها آخرون وهل ارتاح
الآخرون بعد ما فعلوه ؟ هيهات أن يحدث ذلك .
في الفصل الثاني " الصيف " تأتي فتاة للراهب
البوذي طلبًا للشفاء وحينها يحب المتعلم الذي كبر الآن هذه الفتاة ويقع ما لا
ينبغي وقوعه فيقرر الراهب أن يجعل الفتاة ترحل وهي قد أصبحت أفضل الآن كذلك ،
ولكـن الفتى يحبها جدًا ولا يحب ذلك .
لكـن معلمه يخبره أن حبه هذا يوقظ شهوة رغبة التملك ،
وهي تشغل بدورها رغبة القتل وأن عليه أن يتوقف ولكـن لا يحدث ذلك .
في الفصل الثالث " الخريف " نجد أن ما أخبر به
الراهب قد حدث فعلًا ، ويعود الشاب مرة أخرى وفي المعبد يحاول قتل نفسه ولكنه لا
يفلح في ذلك ، ويطهره الراهب بكتابة كلمات من نصوص مقدسة يحفرها بسكينة حتى يصل إلى
السكينة وحينها يذهب ليقضي أيام العقوبة التي يستحقها.
وهنا يختفي الراهب بشكل ما .
في الفصل الرابع " الشتاء " يعود الفتى بعدما
كبر سنه وتراه يتحول للمعلم ، وتأتي امرأة بطفل وتتركه . . وتجد في نهاية الفيلم
هذا الولد الجديد وهو يعيد تكرار كل ماحدث ، عن طريق وضعه للأحجار في فم الحيوانات .
قد يبدو الفيلم للناظر في البداية فيلم عادي وأقل من العادي
بل أحداثه لا قيمة لها وهذه نظرة سطحية جدًا ، فالفيل يكاد يمتلئ عن آخره بالرمزيات.
تحدثنا عن الأسماء وكيف أن الكاتب جعلنا جميعًا في نفس الفيلم عن طريق النهاية
التي أعيد فيها كل ما حدث في البداية ، وكذلك عن طريق الشخصيات التي لا اسم لها .
الطبيعة من حولهم في الفيلم كذلك توحي وكأنها الحياة
وهذا ظاهر من اسم الفيلم كل الشخصيات تمر ب المراحل الخمسة أو ربما تقف عند مرحلة
من المراحل من الربيع إلى الربيع مرة أخرى ، وفي تكرار الفصول وارتباطها بمضمون
الأحداث الكثير والكثير.
في البوذية هناك مصطلح يسمى " السامسارا
" وهو يعني الحركة المستمرة للولادات
، فمهما تموت ترجع مرة أخرى إلى الحياة وهذا غريب جدًا ، وأنت تعود في كل مرة مرتبطًا
بالمرة السابقة فإن كانت حياتك جيدة ولدت في جسد جيد، وإن كانت فاسدة فالعكس .
والإنسان البوذي يسعى للتحرر من سلسلة تعدد الولادات هذه
، أي أن سعيه ينتهي بالفناء فأقصى ما يحب البوذي أن يصل إليه هو أن يتحرر من أسر هذه
الحياة وهذا مختلف بشكل كبير عن ثقافتنا التي يحب الإنسان أن يعيش فيها الآف
السنين ، في البوذية أنت معذب بتكرار الولادات حتى تتحرر.
وفي البوذية أساس مهم جدًا يسمى بـ " الحقائق النبيلة
الأربعة "
وكل هذه الحقائق تتصل بالمعاناة . .
فالحياة هي عبارة عن معانة وفقط .
وهذا ما يقوله علم النفس ففي كتابه يقول د. أحمد عياد
" لكي تعيش عليك أن تعاني، ولكي تستمر يجب عليك أن تجد معنًا لمعاناتك "
" لكي تعيش عليك أن تعاني، ولكي تستمر يجب عليك أن تجد معنًا لمعاناتك "
وبمثل هذا قال د. فيكتور فرانكل وهو صاحب مدرسة أو أسلوب
العلاج بالمعنى " لكي تعيش يجب أن تعاني ، ولكي تبقى على قيد الحياة يجب عليك
أن تعثر على المعنى "
في هذا الكتاب وفي هذه المدرسة يكون دور الإنسان في رحلته
هذه العثور على المعنى للحياة ، ومن الطبيعي والبدهي أن تختلف هذه المعاني بإختلاف
الأشخاص أنفسهم .
وفي البوذية لا يختلف الأمر كثيرًا . .
-
أولًا طبيعة المعاناة : كل شيء في الأرض معاناة ، الولادة
معاناة ، وجودك في هذا العالم معاناة ، الشيخوخة هي بالفعل معاناة وإذا أردت أن
تتأكد من ذلك فعليك بكتاب لأن الإنسان فان ، وعليك بدراسة علم نفس الشيخوخة ، وعليك
بدراسة فسيولوجيا الجسم لتعرف كيف أن الشيخوخة معاناة وأن من نعمره ننكسه ، المرض
معاناة وربما يكون مرضك أنت إن لم يكن خطيرًا أمر عادي ولكـن انظر كيف يكون حالك
عندما يصير ابنك مريضًا ولو قليلًا إلا لو كنت من القاسية قلوبهم ، الموت معاناة ،
الألم معاناة ، الأسف معاناة ، اليأس معاناة .
نجاحك معاناة كبيرة جدًا ،وفشلك معاناة كبيرة جدًا..
وربما تدرك وحدك أن الفشل معاناة ولكـن هل يكون النجاح
معاناة ؟ بالطبع بالطبع هو معاناة لإنه حال غير مستمر فسينقلب ، وستذوق طعمه بشكل
يجعل ألمك بعد ذلك أشد ، الحب معاناة فإنك إما تجد نفسك وحيدًا فتزيد معاناتك
وأحزانك، وإما تقترب من هذا الذي يفهمك وأنت تعلم أنك أو هو سيموت بعد قليل فهذه
معاناة أيضًا ، وهذه الحقيقة الأولى .
-سبب المعاناة وأصلها: سبب المعاناة وأصلها = الإنسان ،
الإنسان – كماعبر – إذا أكل من الحلوى فإنه يكون سعيدًا لفترة ثم إذا انتهت حزن ،
وحتى لو أخذ كل حلوى العالم فإنه سيريد المزيد وسيريد أشياء أخرى وبالتالي يظل
يتقلب في معاناته .
-
إيقاف المعاناة : لكي تتوقف عن المعاناة عليك التوقف عن
كل الأعمال التي تجعلك شغوفًا بها ، عليك التخلي والتنازل عن كل ما تحب ، عليك التحرر
من كل هذا الأسر ، عليك ألا تتشبث بأي شيء على الإطلاق .
-
ومن ثم يضع في النهاية الطريق المؤدي للمعاناة عن طريق
ما يعرف بالطريق النبيل الثماني .
وبهذا تتخلص من المعاناة !
طبعًا هذه المفاهيم جميعها تتداخل مع بعض المفاهيم
الإسلامية بشكل أو بآخر ، وتتداخل مع الصوفية بشكل أو بآخر، سواء الصوفية العادية
أو المتصوفين الفلاسفة بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الإختلاف معهم من ناحية الشرع
.
وقريب من هذا على سبيل المثال " أحبب من شئت . .
فإنك مفارقه "
وللمتصوفة كلام ينبغي أن يسمع في هذا الصدد .
ولكـن هل هذه الرؤية كفيلة بالتخلص من المعاناة ؟
بالتأكيد نعم، بالتأكيد هذه الرؤية كفيلة بذلك ولكنها
غير قابلة للتحقق في كثير من الأحيان ، معنى أن تفعل ما يقال هذا أن تتوقف عن
الحياة بكل سهولة ، أن لا تتعلق بأحد ، ولا تحب أحد ولا تحب شيء ، أن لا تفعل الخير
، أو تفعله وأنت تدرك إنه لا طائل من وراء هذا في الدنيا ، أن تعيش بين الناس ولست منهم ، وأن
يموت قلبك وجسدك قبل أن تموت حقيقة ، الموت يأتي ليذكرنا ، وكما قال : الموت لا
يوجع الموتى ، الموت يوجع الأحياء ، أو كما قال : فالناس من هول الحياة موتى على
قيد الحياة .
أحيانًا يجب على الإنسان أن يحمد ربه على نعمة النسيان ،
نسيان الموت،نسيان أن ما تقوم به كله سينتهي ، وأن من تحب سيرحل ، ربما يرحل وهو
نائم بجانبك ، وربما يرحل بسيارة سريعة وهو يعبر الشارع ، وربما ينام وفقط ، ينام
ولا ينجو ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
الرؤية البوذية على ما فيها من شدة وموت إلا إنها كفيلة
بأن تجعل كل الأمور متشابهة ومتساوية وهذا لا يحدث إلا عن طريق قدر كبير من
المجاهدة تبعًا للفصول ولكـن الأمر صعب جدًا، وياليتني علمت ذلك قبل التعلق ، وقبل
الخوف ، وقبل الموت .
الفيلم عبارة عن سيمفونية ينبغي أن تسمع فلا تفوته ولا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيمً
إرسال تعليق